فصل: الشاهد السادس والعشرون بعد الثلاثمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


وقد نقل الكرمانيّ كلام الدرّة في شرح شواهد الخبيصيّ ثم قال‏:‏ يمكن تصحيح المثلين حقيقةً، وهو أن الحوت لا يشرب ماء البحر ما أمكنه لملوحته؛ فهو إذن ظمآن‏.‏ ولكثرة صبره على العطش مع وجود الماء كأنه ريّان، إذ لولا أنه كذلك لشرب الماء‏.‏ وجاز أن يكون قلّة شربه لخوف غرقه بوصول الماء إلى جوفه متجاوز الحدّ‏.‏

هذا كلامه، ولا ينبغي له تسطير مثل هذا‏.‏ والوجه أن يقال‏:‏ لوجوده في الماء إنما ضرب المثل بربّه، ولعدم طاقته على مفارقة الماء قيل‏:‏ أظمأ من حوت ‏.‏ كأنّ ملازمته للماء إنما هي لشدّة ظمئه‏.‏

وقال صاحب حياة الحيوان‏:‏ هذا البيت مثل يضرب لمن عاش بخيلاً شرهاً‏.‏

وهو من رجز طويل لرؤبة بن العجّاج، عدّته أربعمائة وخمسة وثلاثون بيتاً، مدح به أبا العبّاس السفّاح أول الخلفاء العباسيّة‏.‏

وأوله‏:‏ قلت لزيرٍ لم تصله مريمه وذكر في أواخر فقره وشدّة حاجته إليه‏.‏ وهذه قطعة منه‏:‏ جاءك عودٌ خندقيٌّ قشعمه العود ، بالفتح‏:‏ المسنّ القديم، وأصله في الإبل، عنى به نفسه‏.‏ وخندف‏:‏ امرأة الياس بن مضر‏.‏ وأراد بكونه خندقياً أنه عدنانيٌّ لا قحطاني‏.‏ والقشعم‏:‏ الكبير‏.‏

عليه من لبد الزّمان هلدمه لبد الزّمان ، بكسر اللام وسكون الموحدة‏:‏ جفونه ووسخه‏.‏ وهلدمه‏:‏ ما تراكم بعضه على بعض؛ وقال بعضهم‏:‏ خلقانه‏.‏ وهو بكسر الهاء والدال وسكون اللام بينهما‏.‏

موجّب عاري الضّلوع حرضمه الموجّب ، بكسر الجيم وروي بفتحها‏:‏ الذي يأكل في اليوم والليلة مرّةً، يقال‏:‏ فلان يأكل وحبةً وقد وجبّ نفسه توجيباً‏:‏ إذا عوّدها ذلك‏:‏ أراد‏:‏ إنني لا أصيب من القوت في اليوم والليلة إلاّ مرّة‏.‏ والحرضم ، بكسر المهملة والضاد المعجمة بينهما راء مهملة‏:‏ المهزول، كذا في شرح ديوانه‏.‏

لم يلق للجشب إداماً يأدمه الجشب ، بفتح الجيم وسكون الشين المعجمة‏:‏ ضيق العيش‏.‏ في الصحاح‏:‏ طعام جشب ومجشوب أي‏:‏ غليظ، ويقال هو الذي لا إدام معه‏.‏

ما زال يرجوك لحقّ يزعمه على التنّائي ويراك حلمه التمّائي‏:‏ التباعد‏.‏ والحلم بضمتين‏:‏ ما يراه النائم‏.‏ والأاسناد مجازيّ أي‏:‏ يراك في حلمه‏.‏

قد طالما جنّ إليك أهيمه أهيمه‏:‏ عقله وفؤاده‏.‏

إيّاك لم يخطئ به ترسّمه الترسّم ، بالراء‏:‏ التفرّس، من افراسة‏.‏

كالحوت لا يرويه شيءٌ يلهمه شبّه نفسه بالحوت أي‏:‏ هو كالحوت‏.‏

يصبح ظمآن وغي البحر فمه من عطشٍ لوّحه مسلهمه لوحه‏:‏ غيره، من لوّحته أي‏:‏ غيّرته، ومن لوّحت الشيء بالنار‏:‏ أحميته‏.‏ والمسلهم‏:‏ المغيّر‏.‏

أطال ظمئاً وجباك مقدمه الجبا ، بكسر الجيم بعدها موحدة‏:‏ الماء المجموع للإبل، وهو بالقصر‏.‏ ومقدمه‏:‏ مورده‏.‏

وفيضك الفيض الرّواء أطغمه الرّواء ، بالفتح والمدّ‏:‏ الماء العذب‏.‏ وأطغمه ، أي‏:‏ أكثره؛ وهو بالغين المعجمة‏.‏

قد كان جمّاً شاؤه ونعمه أخبر عن نفسه بأنّه قبل اليوم كثير الغنم والإبل‏.‏

فعضّه دهرٌ مذفٌ محطمه والدّهر أحبى لا يزال ألمه الأحبى‏:‏ الشديد الحابي الضلوع، أي‏:‏ المشرف المنتفخ الجنبين من الغيظ‏.‏

أفنى القرون وهو باق أونمه أي‏:‏ حوادثه، وهو بالزاء المعجمة والنون‏.‏

بذاك بادت عاده وإرمه بادت‏:‏ هلكت‏.‏ وعاد وإرم‏:‏ فبيلتان‏.‏

وهذا آخر الرجز‏.‏ وترجمة رؤبة قد تقدّمت في الشاهد الخامس من أوائل الكتاب‏.‏

وقد خطي الأصمعيّ عند هارون الرشيد بروايته لهذا الرجز‏.‏

روى السيّد المرتضى في أماليه‏:‏ الدّرر والغرر بسنده إلى الأصمعيّ أنه قال‏:‏ تصرّفت بي الأسباب على باب الرشيد مؤمّلاً للظفر به والوصول إليه، حتى إنّي صرت لبعض حرسه خديناً؛ فإنّي في بعض ليلةٍ قد نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد، إذ خرج خادمٌ فقال‏:‏ أما بالحضرة أحدٌ يحسن الشعر‏؟‏ فقلت‏:‏ الله أكبر‏!‏ ربّ قيدٍ مضيّق قد حلّه التيسير‏!‏ فقال لي الخادم‏:‏ ادخل، فلعلّها أن تكون ليلةً يغرس في صباحها الغنى إن فزت بالخطوة عند أمير المؤمنين‏.‏

فدخلت فواجهت الرّشيد في مجلسه، والفضل بن يحيى إلى جانبه، فوقف بي الخادم حيث يسمع التسليم، فسلمت فردّ عليّ السلام ثم قال‏:‏ يا غلام أرحه ليفرح روعه إن كان وجد للرّوعة حسّاً‏!‏ فدنوت قليلاً ثمّ قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين، إضاءة مجدك وبهاء كرمك، مجيران لمن نظر إليك من اعتراض أذيّة‏!‏ فقال‏:‏ ادن‏.‏ فدنوت فقال‏:‏ أشاعرٌ أم راوية‏؟‏ لكلّ ذي جدّ وهزل، بعد أن يكون محسناً‏!‏ فقال‏:‏ تا لله ما رأيت ادّعاء أعظم من هذا‏!‏ فقلت‏:‏ أنا على الميدان، فأطلق من عناني يا أمير المؤمنين‏!‏ فقال‏:‏ قد أنصف القارة من راماها ، ثم قال‏:‏ ما المعنى في هذه الكلمة بديئاً‏؟‏ فقلت‏:‏ فيها قولان‏:‏ القارة هي الحرّة من الأرض، وزعمت الرّواة أنّ القارة كانت رماةً للتبابعة، والملك إذ ذاك أبو حسّان، فواقف عسكره وعسكر السّغد فخرج فارسٌ من السّغد ثد وضع سهمه في كبد قوسه فقال‏:‏ أين رماة العرب‏؟‏ فقالت العرب‏:‏ وقد أنصف القارة من راماها ‏.‏ فقال لي الرشيد‏:‏ أصبت‏!‏‏.‏

ثم قال‏:‏ أرتوي لرؤية بن العجّاج والعجّاج شيئاً‏؟‏ فقلت‏:‏ هما شاهدان لم بالقوافي وإن غيّبا عن بصرك بالأشخاص‏.‏ فأخرج من ثني فرشه رقعة ثم قال‏:‏ أنشدني‏:‏ الراجز أرّقني طارق همّ أرّقا فمضيت فيها مضيّ الجواد في سنن ميدانه تهدر بها أشداقي، فلمّا صرت إلى مديحه لبني أمية، ثنيت لساني إلى امتداحه لأبي العباس في قوله‏:‏ قلت لزيرٍ لم تصله مريمه فلما رآني قد عدلت من أرجوزة إلى غيرها قال‏:‏ أعن حيرةٍ أم عن عمد‏؟‏ قلت‏:‏ عن عمد، تركت كذبه إلى صدقه فيما وصف به جدّك من مجده‏!‏ فقال الفضل‏:‏ أحسنت، بارك الله فيك‏!‏ مثلك يؤهلّ لمثل هذا المجلس‏!‏ فلما أتيت على آخرها قال لي الرشيد‏:‏ أتروي كلمة عديّ بن الرّقاع‏:‏ عرف الدّيار توهّماً فاعتادها قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ هات‏.‏ فمضيت فيها حتّى إذا صرت إلى وصف الجمل قال لي الفضل‏:‏ ناشدتك الله أن تقطع علينا ما أمتعنا به من السهر في ليلتنا هذه، بصفة جمل أجرب‏!‏ فقال له الرشيد‏:‏ اسكت فالإبل هي التي أخرجتك من دارك، واستلب تاج ملكك، ثم ماتت وعملت جلودها سياطاً ضربت بها أنت وقومك‏!‏ فقال الفضل‏:‏ لقد عوقبت على غير ذنب، والحمد لله‏!‏ فقال الرشيد‏:‏ أخطأت، الحمد لله على النّعم، ولو قلت‏:‏ وأستغفر الله كنتمصيباً‏.‏ ثم قال لي‏:‏ امض في أمرك‏.‏ فأنشدته، حتّى إذا بلغت إلى قوله‏:‏ تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه استوى جالساً ثم قال‏:‏ أتحفظ في هذا ذكراً‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، ذكرت الرواة أنّ الفرزدق قال‏:‏ كنت في المجلس، وجرير إلى جانبي، فلما ابتدأ عديّ في قصيدته، قلت لجرير - مسيراً إليه - هلم نسخر من هذا الشاميّ‏.‏ فلما ذقنا كلامه يئسنا منه، فلمّأ قال‏:‏ تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه وعديّ كالمستريح - قال جرير‏:‏ أما تراه يستلب بها مثلاً‏؟‏ فقال الفرزدق‏:‏ يا لكع، إنّه يقول‏:‏ قلم أصاب من الدّواة مدادها فقال عديّ‏:‏ قلم أصاب من الدّواة مدادها فقال جرر‏:‏ أكان سمعك مخبوءاً في صدره‏؟‏‏!‏ فقال له‏:‏ اسكت، شغلني سبّك عن جيّد الكلام‏!‏ فلمّا بلغ إلى قوله‏:‏ الكامل

ولقد أراد الله إذ ولاّكه *** من أمّةٍ إصلاحها ورشادها

قال الرشيد‏:‏ ما تراه قال حين أنشده هذا البيت‏؟‏ قلت‏:‏ قال‏:‏ كذاك أراد الله‏.‏ فقال الرشيد‏:‏ ما كان في جلالته ليقول هذا، أحسبه قال‏:‏ ما شاء‏!‏ قلت‏:‏ وكذا جاءت الرواية‏.‏

فلما أتيت على آخرها قال‏:‏ أتروي لذي الرمّة شيئاً‏؟‏ قلت الأكثر‏.‏ قال‏:‏ فما أراد بقوله‏:‏ الطويل

ممرٌّ أمرّت فتله أسديّةٌ *** ذراعيّة حلاّلةٌ بالمصانع

قلت‏:‏ وصف حمار وحش أسمنه بقل روضةٍ تواشجت أصوله وتشابكت فروعه، من مطر سحابةٍ كانت بنوء الأسد ثم في الذراع من ذلك‏.‏ فقال الرشيد‏:‏ أرح، فقد وجدناك ممتعاً وعرفناك محسناً‏.‏ ثم قال‏:‏ أجد ملالة - ونهض - فأخذ الخادم يصلح عقب النّعل في رجله - وكانت عربيّة - فقال الرشيد‏:‏ عقرتني يا غلام‏!‏ فقال الفضل‏:‏ قاتل الله الأعاجم، أما إنّها لو كانت سنديّةً لما احتجت إلى هذه الكلمة‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ هذه نعلي ونعل آبائي؛ كم تعارض فلا تترك من جوابٍ ممضّ‏!‏ ثم قال‏:‏ يا غلام، يؤمر صالحٌ الخادم، بتعجيل ثلاثين ألف درهم على هذا الرجل، في ليلته هذه، ولا يجب في المستأنف‏.‏

فقال الفضل‏:‏ لولا أنّه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه غيره، لأمرت لك بمثل ما أمر لك، وقد أمرت لك به إلاّ ألف درهم، فتلّقى الخادم صباحاً‏.‏ قال الأصمعيّ‏:‏ فما صلّيت من غدٍ إلاّ وفي منزلي تسعةٌ وخمسون ألف درهم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السادس والعشرون بعد الثلاثمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الطويل

هما نفثا في فيّ من فمويهم *** على النّابح العاوي أشدّ رجام

على أنّه جمع بين البدل والمبدل منه، وهما الميم والواو‏.‏

وتكلف بعضهم معتذراً بأن قال‏:‏ الميم بدل من الهاء التي هي اللام، قدّمت على العين‏.‏

وتقدير القول الأول كما في البغدادّيات لأبي علي ،ه أضاف الفم مبدلاً من عينها الميم للضرورة، كقول الآخر‏:‏ وفي البحر فمه ثم أتى بالواو التي هي عين، والميم عوض منه، فيكون جمعاً بين البدل والمبدل منه للضرورة‏.‏ وقد وجدنا هذا الجمع في مذاهبهم، قال الشاعر‏:‏ أقول يا اللهمّ يا اللّهمّا فجمع بين حرف التبيه وبين الميمين اللتين هما هوضان منه، فيكون قد اجتمع فيه على هذا الوجه ضرورتان‏:‏ إحداهما إضافة فم بالميم وحكمه أن لا يضاف بها، وثانيهما جمعه بين البدل والمبدل منه‏.‏

أقول‏:‏ إضافة فم بالميم فصيح، وليس بضروروة، وتقدّم الردّ عليه بحديث‏:‏ لخلوف فم الصّائم ‏.‏

وأما القول الثاني فهو يشبه أن يكون مذهب سيبويه، فإنّه قال في باب النسبة - واسمه عند باب الإضافة - ما نصّه‏:‏ وأما فم فقد ذهب من أصله حرفان، لأنّه كان أصله فوه، فأبدلوا الميم مكان الواو، فهذه الميم بمنزلة العين نحو ميم ذم ثبتت في الاسم، فمن ترك دم على حاله إذا أضيف ترك فم على حاله، ومن ردّ إلى دم اللام ردّ إلى فم العين فجعلها مكان اللام، كما جعلوا الميم مكان العين في فم‏.‏

قال الشاعر‏:‏ هما نفثا في فيّ من فمويهما وقالوا‏:‏ فموان‏.‏ قال فمان فهو بالخيار، إن شاء قال‏:‏ فمويّ، وإن شاء قال‏:‏ فميّ‏.‏ ومن قال‏:‏ فموان قال‏:‏ فمويّ، على كل حال ‏.‏

هذا كلام سيبويه وبه يظهر خطأ الأعلم في شرح شواهده حيث قال‏:‏ الشاهد في قوله فمويه8ما وجمعه بين الواو والميم التي هي بدل منها في فمّ‏.‏ ومثل هذا لا يعرف لأنّ الميم إذا كانت بدلاً من الواو فلا ينبغي أن يجمع بينهما‏.‏

وقد غلط الفرزدق في هذا، وجعل من قوله إذ أسنّ واختلط عقله‏.‏ ويحتمل أن يكون لّما رأى فما على حرفين توهّمه مما حذفت لمه من ذوات الاعتلال، كيد ودم، فردّ ما توهّمه محذوفاُ منه ‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقوله‏:‏ ومثل هذا لا يعرف ، تقدم عن أبي عليّ أنه معروف في قولهم‏:‏ يا اللهمّ‏.‏

وقوله‏:‏ وقد غلط الفرزدق في هذا الخ ، فيه أنّه لا يجوز أن يتوهمّ في البدويّ أنه يغلط ف ينطقه ويلحن، فإنه لا يطاوعه لسانه وإن تعمّده كما قيل، فالعرب معصومون عن لحن اللسان‏.‏ نعم يجوز أن يغلطوا في المعاني‏.‏

وقوله‏:‏ ويحتمل أن يكون لّما رأى فما على حرفين الخ ، كأنه حين كتب هذا الكلام لم ينظر إلى كلام سيبويه‏.‏

وقد نقل أبو علي في البغداديّات وجهاً آخر في توجيه فمويهما، مع أنه لم ينقل فيها مذهب سيبويه، قال‏:‏ وأمّا الفرزدق فمويهما، فإنه قيل إنّه أبدل من العين الذي هو واوٌ الميم، كما تبدل منه في الإفراد، ثم أبدل من الهاء التي هي لالمٌ الواو‏.‏ وبدل الواو من الهاء غير بعيد ويدل على سوغ ذلك أنهما يعتقبان الكلمة الواحدة، كقولك عضة، فإنّ لمه قد يحكم عليها بأنها هاء لقولهم عضاه، وقد يحكم عليها أنها واو لقولهم عضوات‏.‏

وذهب ابن جنّي في سرّ الصناعة إلى أنّ فمويهما مثنّى فماً بالقصر، قال في قول الشاعر‏:‏ يا حبّذا عينا سليمى والفما يجوز أن يكون الفما في موضع رفع، وهو اسمٌ مقصور بمنزلة عصا، وعليه جاء بيت الفرزدق‏:‏ هما نفثا في فيّ من فمويهما فاعرفه‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ هما نفثا ضمير التثنية راجعٌ إلى إبليس وابنه، كما يأتي‏.‏ ونفث‏:‏ أي‏:‏ ألقيا على لساني، من نفث الله الشيء في القلب‏:‏ ألقاهز وأصل نفث بمعنى بزق ومنهم من يقول‏:‏ إذا بزق ولا ريق معه‏.‏ ونفث في العقدة عند الرّقية، وهو البزاق اليسير‏.‏ ونفثه نفثاً أيضاً‏:‏ إذا سحره‏.‏

وروي أيض‏:‏ هما تفلا من تفل تفلاً، من بابي ضرب وقتل، من البزاق؛ يقال‏:‏ بزق ثم تفل‏.‏ والنابح‏:‏ أراد به من يتعرّض للهجو والسبّ من الشعراء، وأصله في الكلب‏.‏ ومثله العاوي بالعين المهملة‏.‏ والرّجام‏:‏ مصدر راجمه بالحجارة أي‏:‏ راماه‏.‏ وراجم فلانٌ عن قومه‏:‏ إذا دافع عنهم، جعل الهجاء كالمراجمة لجعله الهاجي كالكلب النابح‏.‏ وكأنّ الأعلم لم يقف على ما قبل هذا البيت، ولهذا ظنّ أنّ ضمير التثنية لشاعرين من قومه، نزع في الشعر إليهما‏.‏

وهذا البيت آخر قصيدةٍ للفرزدق، قالها آخر عمره تائباً إلى الله عز وجلّ ممّا فرط منه من مهاجاته الناس، وقذف المحصنات؛ وذمّ فيها إبليس لا غوائه إيّاه في شبابه‏.‏ وهذه أبيات منه‏:‏ الطويل

أم ترني عاهدت ربّي وإنّني *** لبين رتاجٍ قائماً ومقام

على حلفةٍ لا أشتم الدّهر مسلم *** ولا خارجاً من فيّ زور كلام

وأصبحت أسعى في فكاك قلادةٍ *** رهينة أوزارٍ عليّ عظام

ولم انتبه حتّى أحاطت خطيئتي *** ورائي ودقّت للأمور عظامي

‏؟‏أطعتك يا إبليس سبعين حجّةً فلمّا انتهى شيبي وتمّ تمامي

فزعت إلى ربّي وأيقنت أنّني *** ملاقٍ لأيّام المنون حمامي

ألا طالما قد بتّ يوضع ناقتي *** أبو الجنّ إبليسٌ بغير خطام

يظلّ يمنّيني على الرّحل وارك *** يكون ورائي مرّةً وأمامي

يبشّرني أن لا أموت وأنّه *** سيخلدني في جنّةٍ وسلام

فقلت له‏:‏ هلاّ أخيّك أخرجت *** يمينك من خضر البحور طوامي

فلمّا تلاقى فوقه الموج طامي *** نكصت ولم تحتل له بمرام

ألم تأت أهل الحجر والحجر أهله *** بأنعم عيشٍ في بيوت رخام

وآدم قد أخرجته وهو ساكنٌ *** وزوجته من خير دار مقام

وأقسمت يا إبليس أنّك ناصحٌ *** له ولها إقسام غير أثام

وكم من قرون قد أطاعوك أصبحو *** أحاديث كانوا في ظلال غمام

وما أنت يا إبليس بالمرء ابتغي *** رضاه ولا يقتادني بزمام

سأجريك من سوءات ما كنت سقتني *** إليه جروحاً فيك ذات كلام

تعيّرها في النّار والنّار تلتقي *** عليك بزقّومٍ لها وضرام

وإنّ ابن إبليس وإبليس ألبن *** لهم بعذاب الناس كلّ غلام

هما نفثا في فيّ من فمويهما‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وقوله‏:‏ ألم ترني عاهدت ربي ، البيتين، هما من شواهد الكشاف ومغني اللبيب، ويأتي إن شاء الله شرحهما في محلّه‏.‏

وقوله‏:‏ وإن ابن إبليس الخ ألبن‏:‏ سقيا اللبن، يريد أن إبليس وابنه سقيا كلّ غلام من الشعراء هجاءً وكلاماً خبيثاً‏.‏ ثم إنّ الفرزدق سامحه الله وغفر ذنبه بعد هذا نقض توبته ورجع إلى الأوّل‏.‏

وكان السبب في نقض التوبة هو ما حكاه شارح النقائض‏:‏ أن الفرزدق لما حجّ عاهد الله بين الباب والمقام أن لا يهجو أحداًِ أبداً‏.‏ وأن يقيّد نفسه حتى يحفظ القرآن، فلما قدم البصرة قيّد نفسه وقال‏:‏

ألم ترني عاهدت ربّي وإنّني *** لبين رتاجٍ قائماً ومقام

الأبيات‏.‏ ثم إن جريراً والبعيث هجواه، وبلغ نساء بني مجاشع فحش جرير بهنّ، فأيتن الفرزدق وهو مقيد فقلن‏:‏ قبح الله قيدك، وقد هتك جريرٌ عورات نسائك، فلحيت شاعر قوم‏!‏ فأغضبه ففك قيده وقال، وهو من قصيدة‏:‏ الطويل

لعمري لئن قيّدت نفسي لطالم *** سعيت وأوضعت المطيّة في الجهل

ثلاثين عاماً ما أرى من عمايةٍ *** إذا برقت أن لا أشدّ لها رحلي

أتتني أحاديث البعيث ودونه *** زرود فشامات الشّقيق من الرّمل

فقلت أظنّ ابن الخبيثة أنني *** شغلت عن الرّامي الكنانة بالنّبل

فإن يك قيدي كان نذراً نذرته *** فما بي عن أحساب قومي من شغل

أنا الضّامن الرّأعي عليهم وإنّم *** يدافع عن أحسابهم أن ومثلي

قوله‏:‏ أوضعت المطيّة ، أي‏:‏ دفعتها في السير‏.‏ والعماية ، بالفتح‏:‏ الجهل والصبا‏.‏

وقوله‏:‏ أظنّ ابن الخبيثة ، الهمزة للاستفهام، وابن الخبيثة فاعل ظنّ، وأراد به جريراً‏.‏

يقول‏:‏ إنما أراد جريرٌ بهجاء البعيث غيره، كما صنع رامي الكنانة بصاحبها‏:‏ وذلك أن رجلاً من بني فزارة ورجلاً من بني أسد كانا راميين، فالتقيا ومع الفزاريّ كنانةٌ ومع الأسديّ كنانة رثّةٌ، فقال الأسديّ للفزاريّ‏:‏ أنا أرمى وأنت‏!‏ فقال الفزاريّ‏:‏ أنا أرمى منك‏؟‏ فقال له الأسديّ‏:‏ فإنّي أنصبت كنانتي وتنصب كنانتك حتّى نرمي فيهما، فنصب الأسديّ كنانته فجعل الفزاريّ يرميها فيقرطس، حتّى أنفذ سهامه كلّها، كلّ ذلك يصيبها ولا يخطئها ، فلما رأى الأسديّ أنّ سهام الفزاريّ نفذت قال‏:‏ انصب لي كنانتك حتّى أرميها‏.‏ فرمى فسدّد السهم نحوه حتّى قتله، فضربه الفرزدق مثلاً، يعني أنّ جريراً يهجو البعيث وهو يعرّض بالفرزدق‏.‏

وقوله‏:‏ أنا الضامن الراعي عليهم عليهم الخ ، هذا البيت من شواهد النحاة والبيانيّين، وروي صدره بغير هذا أيضاً‏.‏

وترجمة الفرزدق قد تقدّمت في الشاهد الثلاثين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السابع والعشرون بعد الثلاثمائة

وهو من شواهد المفصّل وغيره‏:‏ الكامل

وأبيّ مالك ذو المجاز بدار

هذا عجزٌ وصدره‏:‏

قدرٌ حلّك ذا المجاز وقد أرى

على أنّ أبيّ عند المبّرد مفردٌ ردّ لامه في الإضافة إلى الياء كما ردّت في الإضافة إلى غيرها، فيكون أصله أبوي، قلبت الواو ياء وأدغمت فيها، عملاً بالقاعدة حيث اجتمعا وكان أوّلهما ساكناً، وأبدلت الضمّة كسرة لئلاّ تعود الواو‏.‏

وكلام المبّرد وإن كان موافقاً للقياس إلاّ أنّه لم يقم عليه دليل قاطع‏.‏ قال الزمخشريّ في المفصّل‏:‏ وقد أجاز المبّرد أبي وأخيّ، وأنشد‏:‏ وأبيّ مالك ذو المجاز بدار وصحّة محمله على الجمع في قوله‏:‏ وفدّيننا بالأبينا تدفع ذلك‏.‏ يريد أن أبيّ جاء على لفظ الجمع، ولا قرينة مخلّصة لللإفراد فتعارض الاحتمالان، فحمل على لفظ الجمع وسقط الاحتجاج به في محلّ الخلاف فيكون أصله على هذا أبين، حذفت النون عند الإضافة، فأدغمت الياء التي هي ياء الجمع في ياء المتكلّم‏.‏ فوزن أبي فعي لا فعلي‏.‏

وعلى هذا حمل ابن جنّي وغيره قراءة من قر‏:‏ نعبد إلهك وإله أبيك إبراهيم وإسمعيل وإسحق ؛ ليكون في مقابلة آبائك في القراءة الآخرى‏.‏

قال أبو علي في الإيضاح الشعريّ‏:‏ ومن زعم أن قول الشاعر‏:‏ وأبيّ مالك ذو المجاز بدار إنّما ردّ الواو التي هي لام الغعل، في الإضافة، إلى الياء كما ردّه مع الكاف والهاء في نحو أبوك وأبوه، فليس بمصيب، وذلك أنّ هذا الموضع لّما كان يلزمه الإعلال بالقلب، وقد استمرّ فيه القلب وأمضي ذلك فيه، فلم يرد فيه ما كان يلزمه الإعلال، وإنّ أبيّ مثل عشريّ‏.‏ انتهى‏.‏

واحتجّ ابن الشجريّ في أماليه بمثل هذا ‏.‏

وقد عزا ثعلب في أماليه العاشرة إلى الفراء ما عزاه الزمخشريّ وابن الشّجريّ إلى المبّرد، من كون أبي مفرداً رد إليه لام فعله‏.‏ وهذه عبارة ثعلب‏:‏ الفراء يقول‏:‏ من أتمّ الأب، فقال‏:‏ هذا أبوك، فأضاف إلى نفسه، وقال‏:‏ هذا أبيّ، خفيفٌ‏.‏ قال‏:‏ والقياس قول العرب‏:‏ هذا أبوك وهذا أبيّ فاعلم ثقيلٌ ، وهو الاختيار‏.‏

وأنشد‏:‏ الوافر

فلا وأبيّ لا آتيك حتّى ينسّى الواله الصّبّ الحنينا

وقال‏:‏ أنشد الكسائيّ برنبويه - قرية من قرى الجبل - قبل أن يموت‏:‏

قدرٌ أحلك ذا النّجيل وقد أرى *** وأبيّ مالك ذو النّجيل بدار

إلاّ كداركم بذي بقر الحمى *** هيهات ذو بقرٍ من المزدار

انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ قدرٌ مبتدأ، وجملة أحلّك الخ خبره‏.‏ وهو كقولهم‏:‏ شرٌّ أهرّ ذا ناب ، أي‏:‏ ما أحلّك ذا المجاز إلاّ قدر‏.‏

وأورده ابن هشام في مسوّغات الابتداء بالنكرة من الباب الرابع، من المغني على أنّ المسوّغ للابتداء به صفة محذوفة، كقولهم‏:‏ شرّ أهرّ ذا ناب أي‏:‏ قدرٌ لا يغالب وشرّ أيّ شر‏.‏ والقدر‏:‏ قضاء الله وحكمه‏.‏ وأحلك بمعنى أنزلك،متعديّ حلّ بالمكان حلولاً‏:‏ إذا نزل، وهو متعدّ إلى مفعولين أولهما الكاف وثانيهما ذا المجاز، والهمزة للتصيير أي‏:‏ صيّرك حالاً بذي المجاز‏.‏

وذو المجاز بفتح الميم وآخره زاء معجمة‏:‏ سوقٌ كانت في الجاهليّة للعرب‏.‏ قال ابن حجر في شرح البخاريّ‏:‏ الفاكهيّ من طريق ابن إسحاق‏:‏ أنّ ذا المجاز سوقٌ كانت بناحية عرفه إلى جانبها‏.‏

وعند الأزرقيّ من طريق هشام بن الكلبيّ، أنّها كانت لهذيل على فرسخ من عرفة‏.‏ ووقع في شرح الكرمانيّ أنّها كانت بمنىً‏.‏ وليس بشيء، لما رواه الطّبرانيّ عن مجاهد‏.‏ أنهم كانوا لا يبيعون ولا يبتاعون في الجاهلية بعرفة ولا بمنى‏.‏ انتهى‏.‏

والكرمانيّ في هذا تابع لصاحب الصحاح، فإنّه قال فيه‏:‏ ذو المجاز موضع بمنى كان به سوقٌ في الجاهلية‏.‏ وتبعه أيض وذو النجيل في رواية ثعلب بضمّ النون وفتح الجيم، كذا رأيته مضبوطاً في نشخة صحيحة قديمة من أماليه عليها خطوط الأئمّة ‏.‏ قال ابن الأثير في المرصّع‏:‏ ذو ال،ّجيل بضم النون وفتح الجيم‏:‏ موضع من أعراض المدينة وينبع‏.‏

وروي أيض‏:‏ ذو النّجيل بضم النون وفتح الخاء المعجمة وهو مناسبٌ أيضاً، قال ابن الأثير في المرصّع‏:‏ هو عين قرب المدينة، وأخرى قرب مكّة، وموضع دوين حضوموت‏.‏ وكلا هذين اللفظين غير موجود في معجم ما استعجم للبكريّ‏.‏

وقوله‏:‏ وقد أرى قد للتحقيق وأرى بمعنى أعلم معلّق عن العمل بما النافية، والجملة بعدها سادّة مسدٌ المفعولين‏.‏ وقوله‏:‏ وأبيّ الواو للقسم، وجملة القسم معترضة بين أرى ومعموله، أتى بها للتأكيد، وجواب القسم محذوف يدلّ عليه مفعول أرى‏.‏

وحرّفه بعضهم فرواه‏:‏ ولا أرى بلا النافية موضع قد، وزعم أنّ الجملة المنفيّة جواب القسم وأنّ مفعولي أرى محذوفان تقديره‏:‏ لا أراك أهلاً لذي المجاز‏.‏ وقيل‏:‏ لا دعائيّة‏.‏ هذا كلامه‏.‏

ولم يرو هذه الرواية أحدٌ، والثابت في رواية ثعلب وغيره من شروح المفصّل هو ما قدّمناه وليس المعنى أيضاً على ما أعربه، فتأمّل‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ ارى بالمبنيّ للمفعول بمعنى أظنّ، وبكسر الكاف من أحلك ولك ، وكلاهما لا أصل له‏.‏

وقوله‏:‏ ما لك ذو المجاز الخ ، وذو المجاز‏:‏ فاعل لك لاعتماده علىالنفي، وهو مبتدأ ولك خبره، وعليهما فقوله بدار حالٌ صاحبها ذو المجاز على الأوّل وضميره المستتر في لك على الثاني، وقوله بدار خبر المبتدأ، ولك كان في الأصل صفة لدار فلمّا قدّم صار حالاً‏.‏ خاطب نفسه وقال‏:‏ قدر الله وقضاؤه أحلّك هذا الموضع، وقد أعلم أنّه ليس لك هذا الموضع بمنزلٍ تقيم فيه، بل ترتحل عنه، وأقسم على ذلك بأبي‏.‏

وقوله‏:‏ إلاّ كداركم ، صفة لموصوف محذوف أي‏:‏ إلاّ دار كداركم، والكاف زائدة‏.‏ وذو بقر بفتح الموحدة والقاف، قريةٌ في ديار بني أسد، وقال أبو حاتم عن الأصمعيّ‏:‏ هو قاعٌ يقري الماء، وقال يعقوب‏:‏ هو وادٍ فوق الرّبدة انتهى‏.‏

والمراد هو الأخير بدليل إضافته إلى الحمى، فإنّ الرّبذة كانت حمىً خارج المدينة المنّورة‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ الرّبذة ، بفتح أوّله والموحّدة وبالذال المعجمة، هي التي جعلها عمر حمىً لإبل الصدقة، وكان حماه الذي أحماه بريداً في بريد، ثم زادت الولاة في الحمى أضعافاً، ثم أبيحت الأحماء في أيّام المهديّ العباسيّ فلم يحمها أحدٌ بعد ذلك‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ثمّ الجبال التي تلي القهب عن يمين المصعد إلى مكّة جبلٌ أسود يدعى أسود البرم، بينه وبين الرّبذة عشرون ميلاً، وهو في أرض بني سليم، وأقرب المياه من أسود البرم حفائر حفرها المهديّ على ميلين منه، تدعى ذا بقر، وقد ذكرها مؤرخ السّلميّ فقال‏:‏

قدرٌ أحلّك ذا النّجيل وقد أرى ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيتين

وأنشدهما على رواية ثعلب في أماليه ‏.‏ والمزدار‏:‏ اسم فاعل من ازدار‏:‏ افتعل من الزيارة‏.‏ وأراد الشاعر به نفسه، استبعد أن يزور أرضه‏.‏

وروى أبو عبيد في المعجم الزّوّار جمع زائر‏.‏

وقائل هذين البيتين مؤرخ السّلميّ كما قال أبو عبيد في المعجم ، وهو شاعرٌ إسلاميّ من شعراء الدولة الأمويّة‏:‏ ومؤرج ، بضم الميم وفتح الهمزة وتشديد الراء المكسورة وآخره جيم، وهو اسم فاعل من أرّجت بين القوم تأريجاً‏:‏ إذا هيّجت الشرّ بينهم‏.‏ والسّلميّ ، بضم السين وفتح اللام، نسبة إلى سليم بن منصوزر، مصغّراً، وهو أبو قبيلة‏.‏

تتمة قال ابن حجر في شرح البخاريّ‏:‏ أسواق العرب في الجاهليّة أربعة‏:‏ ذو المجاز، وعطاظ، ومجنّة، وحباشة‏.‏

أما ذو المجاز فقد تقدّ‏؟‏م نقله عنه‏.‏

وأمّا عكاظ بضم أوله، فعن ابن إسحاق‏:‏ أنّها فيما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال لها الفتق، بضمّ الفاء والمثنّاة بعدها قاف‏.‏ وعن ابن الكلبيّ‏:‏ كانت بأسفل مكّة على بريدٍ منها غربيّ البيضاء، وكانت لكنانة‏.‏

وأما حباشة بضم الحاء المهملة وتخفيف الموحّدة، وبعد الألفشين معجمة، فكانت في ديار بارق نحو قنونا، بفتح القاف وبضمّ النون الخفيفة وبعد النون ألف مقصورة، من مكّة إلى جهة اليمن على ستّ مراحل‏.‏ وقد ذكر في الحديث الثلاث الأول، وإنّما لم تذكر حباشة في الحديث لأنّها لم تكن من مواسم الحجّ‏.‏ وإنّما كانت تقام في شهر رجب‏.‏

قال الفاكهيّ‏:‏ ولم تزل هذه الأسواق قائمة في الإسلام إلى أن كان أول ما ترك منها سوق عكاظ في زمن الخوارج، سنة تسع وعشرين ومائة، وآخر ما ترك منها سوق حباشة في زمن داود بن عيسى بن وسى العبّاسيّ، في سنة سبع وتسعين ومائة ثم أسند عن ابن الكلبيّ‏:‏ أنّ كلّ شريفٍ إنّما كان يحضر سوق بلدة إلاّ سوق عكاظ، فإنّهم كانوا ينتوافون بها من كلّ جهة، فكانت أعظم تلك الأسواق‏.‏ وقد ذكرها في أحاديث، منها حديث ابن عبّاس رضي الله عنهم‏:‏ انطلق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ الحديث في قصّة الجنّ‏.‏

وروى الزّبير بن بكّار في كتاب النسب أنها كانت تقام صبح هلتال ذي القعدة إلى أن تمضي عشرون يوماً‏.‏ قال‏:‏ ثم تقوم سوق مجنّة عشرة أيام إلى هلال ذي الحجّة، ثم تقوم سوق ذي المجاز ثمانية أيام، ثم يتوجهون إلى منى بالحج‏.‏ وفي حديث جابر‏:‏ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم، بمجنّة وعكاظ يبلّغ رسالات ربه ‏.‏ انتهى ما أورده ابن حجر‏.‏

وفيه‏:‏ أنّ أسواق أكثر من العرب أكثر من هذا، جمعها صاحب قبائل العرب قال‏:‏ دومة الجندل كانت تقوم أوّل يوم من ربيع الأول إلى النصف منه، وكانت المبايعة في إلقاء الحجارة على السّلعة، فمن أعجبته ألقى حجراً فتركت له‏.‏ والمشّقر تقوم من أوّل يوم من جمادى الآخرة، وكان بيعهم بالملامسة والإيماء والهمهمة، خوف الحلف والكذب‏.‏ ثم صحار بضم الصاد المهملة تقوم لعشر يمضين من رجب، خمسة أيام ثم الشّحر بالكسر، يقوم في النصف من شعبان وكان بيعهم فيه بالحجارة أيضاً‏.‏ ثم صنعاء في النصف من شهر ومضان إلى آخره‏.‏

ثم سوق حضرموت في النصف من ذي القعدة‏.‏ ثم عكاظ في هذا اليوم بأعلى نجد قريب من عرفات‏.‏ وعكاظ من أعظم أسواق العرب، وكان يأتيها قريشٌ بأعلى نجد قريب من عرفات‏.‏ وعكاظ من اعظم أسواق العرب، وكان يأتيها قريشٌ وهوازن وغطفان، وسليم الأحابيش وعقيل والمصطلق، وطوائف من العرب إلى آخر ذي القعدة، فإذا أهلّ ذو الحجّة أتوا ذا المجاز - وهو قريب من عكاظ - فتقوم سوقه إلى التروية، ثم يصيرون إلى منى، وتقوم سوق نطاة بخيبر، وسوق حجر بفتح المهملة وسكون الجيم يوم عاشوراء إلى آخر المحرم‏.‏ هذا ما أورده صاحب قبائل العرب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثامن والعشرون بعد الثلاثمائة

، وهو من شواهد سيبويه‏:‏ المتقارب

فلمّا تبيّنّ أصواتن *** بكين وفدّيننا بالأبينا

على أن الأب يجمع على الأبين علة حدّ جمع المذكر السالم، كما في هذا البيت‏.‏

قال سيبويه‏:‏ وسألته - يعني الخليل - عن أب فقال‏:‏ إن ألحقت فيه النون والزيادة التي قبلها قلت أبون، وكذلك أخ تقول أخون، لا تغيّر البناء، إلاّ أن تحدث اللعرب شيئاً كما يقولون دمون، ولا تغيّر بناء الأب عن حال الحرفين لأنّه بني عليه، إلاّ أن تحدث العرب شيئاً، كما بنوه على غير بناء الحرفين ‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فلمّا تبيّنّ أصواتن ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

أنشدناه من نثق به، وزعم أنه جاهليّ‏.‏ وإن شئت كسّرت فقلت‏:‏ آباء وآخاء‏.‏ انتهى نصّ سيبويه‏.‏

وأورد ابن جنّي في المحتسب بعد هذا البيت - عند قراءة ابن عبّا والحسن‏:‏ وإله أبيك على أنّه أبين، حذفت النون للإضافة - قول أبي طالب نظيراً له‏:‏ الطويل

ألم تر أنّي بعد همّ هممته *** لفرقة حرّ من أبين كرام

وقول آخر‏:‏ فهو يفدّى بالأبين والخال قال الأعلم‏:‏ جمع أب جمع صسلامة غريبٌ، إذ حقّه للأعلام والصفات الجارية على فعلها، كمسلمين‏.‏

وقوله‏:‏ تبّينّ بمعنى تعرّفن وبه روي أيضاً‏.‏ أي‏:‏ لّما عرفن اصواتنا معرفةً بيّنه، ووزنه تفعّلن‏.‏ أدغمت النون الأصلية في نون جماعة النساء‏.‏ وقوله‏:‏ فدّيننا الخ، أي قلن‏:‏ جعل الله آباءنا فداءً لكم‏.‏

قال ابن السيرافيّ في شرح أبيات الكتاب وتبعه من بعده من شرّاح الشواهد‏:‏ البيت لزياد بن واصل‏.‏ لّما عرفن أصواتهم ركبن إليهم حتّى يستنقدوهنّ وفدّينهنّ بآبائهنّ‏.‏

ويروى‏:‏ فلمّا تبيّنّ أشباحنا جمع شبح‏.‏

وقال أبو محمد الأعرابيّ الغندجانيّ في فرحة الأديب‏:‏ كذب ابن السيرفي في تفسير هذا البيت ، ولم يعرف منه قليلاً ولا كثيراً، كيف ركبن إليهم حتّى يستقذوهنّ سبايا كما زعم‏.‏

وإنّما معنى البيت أنّ زياداً افتخر في أبياتٍ بآباء قومه وبأمهاتهم من بني عامر، وأنّهم قد أبلوا في حروبهم ومعاونتهم، فلما عادوا إلى حللهم وعند نسائهم وعرفن أصواتهم فدّينهم لأجل أنّهم أبلوا في الحروب‏.‏ والأبيات تدلّ على صحّة هذا المعنى‏.‏ وأولها - وهي لزياد بن واصل السّلميّ -‏:‏

هزتنا نساء بني عامرٍ *** فسمنا الرّجال هواناً مبينا

ونحن بنوهنّ يوم الصّف *** ق إذ نقبل القوم وعثاً حزوناً

بضربٍ كولغ ذكور الذّئ *** ب تسمع للهام فيه رنينا

ورميٍ على كلّ عزّافةٍ *** تردّ الشّمال وتعطي اليمينا

وكنّا مع الخيل حتّى استوت *** شباب الرّجال وسرّوا العيونا

لمّا تبيّنّ أصواتن *** رئمن وفدّيننا بالأبينا

انتهى ما أورده أبو محمد‏.‏ ورئمن بمعنى عطفن وحننّ من الحنين، ومعناه على رواية بكين أنّهنّ بكين فرحاً بسلامتهم، وفدّينهم بآبائهنّ إشفاقاً عليهم‏.‏

وقولهه‏:‏ عزتنا ، من عزوته إلى أبيه‏:‏ إذا نسبته إليه‏.‏ أراد‏:‏ نسبت نساء بني عامر إلينا، وقلن نحن منكم‏.‏

وقوله‏:‏ قسمنا الرجال ، من سامه خسفاً، أي‏:‏ أولاه ظلماً ومهانة‏.‏

وقوله‏:‏ بضرب الخ ، وهو متعلّق بسمنا، يقال‏:‏ ولغ في الإناء ولغاً وولوغاً إذا شرب ما فيه بأطراف لسانه‏.‏ وقوله‏:‏ تسمع ، صفة ضرب، والهامة الرأس، وضمير فيه للضرب‏.‏

وقوله‏:‏ ورمي الخ ، هو بالجرّ عطف على ضربٍ‏.‏ والشّجاع الجهير الصوت، وهو صيغة مبالغة من العزف، بالعين المهملة والزاي المعجمة والفاء، وهو الصّوت‏.‏ أي‏:‏ ورميٍ على كلّ شجاع صيّت يردّ الضرب عن شماله ويعطيه عن يمينه‏.‏ وزياد بن واصل من شعراء بني سليم، وهو جاهليّ كما قال سيبويه‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد التاسع والعشرون بعد الثلاثمائة

وكنت له كشرّ بني الأخينا

على أن أخا يجمع على أخين جمع مذكر سالم كما يجمع أب على أبين‏.‏

وهذا عجز، وصدره‏:‏ وكان لنا فزارة عمّ سوءٍ وهذا البيت أورده أبو زيد مفرداً في نوادره، ونسبه إلى عقيل بن علّفة المرّيّ، وقال‏:‏ أراد الإخوة‏.‏

قال ابن الشجريّ في أماليه‏:‏ وأما قول الآخر، وهو من أبيات الكتاب‏:‏ الوافر

فقلنا أسلموا إنّا أخوكم *** فقد برئت من الإحن الصّدور

فقيل‏:‏ إنه وضع الواحد موضع الجمع، وقيل‏:‏ إنّه جمع أخ كجمع أب على أبين، وحذف النون من أخون للإضافة‏.‏ ومن قال الأبون والأخون قال في التثنية الأبان والأخان، فلم يردّ اللام في التثنية كما لم يردّها في الجمع‏.‏ انتهى‏.‏

أقول هذا البيت ليس من شواهد الكتاب، وأورد الجاحظ في البيان والتبيين ما قبل البين الشاهد قال‏:‏ وقال الآخر في إنجاب الأمّهات وهو يخاطب بني إخوته‏:‏ الوافر

عفاريتاً عليّ وأخذ مالي *** وعجزاً عن أناسٍ آخرينا

فهلاّ غير عمّكم ظلمتم *** إذا ما كنتم متظلّمينا

ولو كنتم لمكسيةٍ أكاست *** وكيس الأمّ كيس للبنينا

ولكن أمّكم حمقت فجئتم *** غثاثاً ما نرى فيكم سمينا

وكان لنا فزارة عمّ سوءٍ *** وكنت له كشرّ بني الأخينا

وقوله‏:‏ متظلّمينا ، في الصحاح‏:‏ تظلّمني فلان، أي‏:‏ ظلمني مالي‏.‏ وقوله‏:‏ ولو كنتم لمكسية الخ ، هو بضم الميم وسكون الكاف وكسر التحتيّة، هي المراة التي تلد أولاداً أكياساً‏.‏ وأكاست المرأة‏:‏ ولدت ولداً كيّساً‏.‏

قال اصاحب الصحاح‏:‏ الكيس‏:‏ خلاف الحمق، والرجل كيّس مكّيس باسم المفعول، أي‏:‏ ظريف؛ والكيسى ، بالكسر‏:‏ نعت المرأة الكيّسة، وهو تأنيث الأكيس، وكذلك الكوسى بالضم؛ وقد كاس الولد يكيس كيساً‏.‏ وأكيس الرجل وأكاس، إذا ولد له أولاد أكياس، وأنشد هذا البيت مع ما بعده‏.‏ وروى المصراع الثاني هكذا‏:‏ فكيس الأمّ يعرف بالبنينا وكذا أنشدهما الصاغانيّ في العباب ونسبه إلى رافع بن هريم‏.‏ وقد رجعت إلى ديوان رافع بن هريم، فلم أجد إلا البيتين الأوّلين وهما‏:‏

عفاريت عليّ وأخذ مالي ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

والبيت الذي بعده‏.‏ وليس فه البيتان اللذان أوردهما صاحب الصحاح والعباب منسوبين إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ولكنّ أمّكم حمقت ، بضم الميم، أي‏:‏ صارت حمقاء‏.‏ والغثاث‏:‏ بكسر المعجمة بعدها مثلّثة‏:‏ جمع عثيث بمعنى المهزول، ككرام جمع كريم‏.‏ وفزارة ، بفتح الفاء والزاي المعجمة‏:‏ أبو حيّ من غطفان، هو فزارة ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان‏.‏ والسّوء ، بالفتح، هو المؤذي‏.‏ في المصباح وغيره‏:‏ هو رجل سوء، بالفتح والإضافة، وعمل سوء، فإن عرّفت الأول قلت‏:‏ الرجل السّوء والعمل السّوء، على النعت‏.‏

وقوله‏:‏ وكنت له الخ في أكثر نسخ الشرح وكنت لهم بضمير الجمع، وهو خطأ والصواب الإفراد، وهو بالتكلّم لا بالخطاب‏.‏ وإنّما قال‏:‏ كشرّ بالكاف لا بدونها، لأنه اراد مثل أشرّ بني إخوةٍ في الدنيا، ولم يرد أنه مثل أشرّ بني إخوة فزارة‏.‏

والظاهر أن هذا البيت وحده لعقيل بن علّفة، وهو غير مرتبط بالأبيات التي أوردها الجاحظ قبله‏.‏ وتلك الأبيات البيتان الأوّلان منها، رأيتهما في ديوان رافع بن هريم، من رواية أبي عمرو‏.‏ ورافع هو رافع بن هريم بن عبد الله بن الحارث بن عاصم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع‏.‏ قال أبو زيد في نموادره‏:‏ هو شاعر قديم أدرك الإسلام وأسلم وديوانه صغير، وهو عندي وعليه خطّ أبي العبّاس ثعلب إمام الكوفيّين، وخطّ الحسن بن الخشّاب البغدادي، وليس فيه من شواهد هذا الشرح شيء‏.‏ وهريم بضم الهاء وفتح الراء المهملة‏.‏

وأما عقيل بن علّفة فهو شاعر فصيح مجيد من شعراء الدولة الأمويّة‏.‏ وعقيل بفتح العين وكسر القاف‏.‏ وعلّفة ، بضمّ العين المهملة وتشديج اللام المفتوحة بعدها فاء، وهو علم منقول من واحد العلّف، وهو ثمر الطلّح‏.‏

وهو عقيل بن علّفة بن الحارث بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ ابن مرّة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر‏.‏ وأمّه عمرة بنت الحارث بن عوف المرّيّ‏.‏ وأمّها بنت بدر بن حصن بن حذيفة‏.‏

قال صاحب الأغاني، كان عقيلٌ هذا جافياً أهوج شديد الغيرة والعجرفيّة وهو في بيت شرفٍ في قومه من كلا طرفيه‏.‏ وكان لا يرى أنّ له كفئاً، وكانت قريش ترغب في مصاهرته وتزوّج إليه من خلفائها وأشرافها، وخطب إليه عبد الملك بن مروان بعض بناته لبعض ولده، فأطرق ساعة ثم قال‏:‏ إن كان ولا بدّ فجنبني هجناءك‏!‏ فضحك عبد الملك وعجب من كبر نفسه على ضيقته وشدّة عيشته بالبادية‏.‏

ودخل عثمان بن حيّان - وهو أمير المدينة - فقال له عثمان‏:‏ زوّجني بعض بناتك‏.‏ فقال‏:‏ أبكرةً من إبلي تعني‏!‏ فقال له عثمان‏:‏ أمجنونٌ أنت‏؟‏ قال‏:‏ أيّ شيءٍ قلت لي‏؟‏ قال‏:‏ قلت لك‏:‏ زوّجني ابنتك‏.‏ فقال‏:‏ إن كنت تريد بكررةً من إبلي فنعم‏.‏ فأمر به فوجئت عنقه، فخرج وهو يقول‏:‏ الطويل

لحا الله دهراً ذعذع المال كلّه *** وسوّد أبناء الإماء العوارك

وكان له جار جهنيّ، وقيل سلامانيّ، فخطب إليه ابنته، فغضب عقيل وأخذه فكتّفه ودهن اسنه بشحم وزيت، وأدناه من قرية النمل، فأكل خصيتيه حتى ورم جسده، ثم حلّه وقال‏:‏ يخطب إليّ عبد الملك فأردّه، وتجترئ أنت عليّ فتخطب ابنتي‏!‏

وروى أنّ عمر بن عبد العزيز عاتب رجلاً من قريش أمّه أخت عقيل بن علّفة، فقال له‏:‏ قبحك الله، لقد أشبهت خالك في الجفاء‏!‏ فبلغت عقيلاً فرحل من البادية حتّى دخل على عمر فقال له‏:‏ أما وجدت لابن عمّك شيئاً تعيّره به إلاّ خؤولتي، قبح الله شرّكما خالا‏!‏ فقال عمر‏:‏ إنك لأعرابيّ جافٍ، أما لو كنت تقدّمت إليك لأدّبتك، والله ما أراك تقرأ شيئاً من كتاب الله‏.‏ فقال‏:‏ بلى، إني لأقرأ‏.‏ ثم قرأ‏:‏ إنا بعثنا نوحاً إلى قومه‏!‏ فقال له عمر‏:‏ ألم أقل إنّك لا تقرأ‏؟‏ فقال‏:‏ ألم اقرأ‏؟‏ فقال‏:‏ إن الله قال‏:‏ إنا أرسلنا نوحاً ‏.‏ فقال عقيل‏:‏ الطويل

خذوا بطن هرشى وقفاها فإنّه *** كلا جانبي هرشى لهنّ طريق

فجعل القوم يضحكون من عجرفته ويعجبون‏.‏

وروي أنّه قرأ إذا زلزلت الأرض حتّى بلغ آخرها، فقدّم ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره على‏:‏ فمن يعمل مثقال ذرّة خيراُ يره فقال له عمر‏:‏ إنّ الله تعالى قدّم الخير وأنت قدّمت الشرّ‏!‏ فأنشد البيت‏.‏

وأورده صاحب الكشّاف في إذا زلزلت لهذه الحكاية‏.‏ وهرشى بالفتح والقصر‏:‏ ثنيّة في طريق مكّة حرسهاالله، قريبة من الجحفة يرى منها البحر‏.‏ وهذا مثلٌ في التخيير‏.‏ لاهرشى طريقان، من سلك أيّهما شاء أصاب‏.‏ وضمير لهنّ للإبل‏.‏

والمعنى يا صاحبيّ سيرا في بطن هذه الثنيّة وقفاها، أي‏:‏ أمامه وخلفها، فإنّ كلا جانيها طريقٌ للإبل‏.‏ كأنه ظنّ أن التقديم والتأخير في هذا المقام لا يضرّ، وهو غفلّةٌ عن المزايا القرآنية‏.‏

وقدم عقيلٌ المدينة فدخل المسجد، وعليه خفّان غليظان، فجعل يضرب برجله، فضحكوا منه، فقال‏:‏ ما يضحككم‏؟‏ فقال له يحيى بن الحكم - وكانت ابنة عقيل عنده، وكان أميراً على المدينة - إنهم يضحكون من خفيّك وضربك برجليك، وجفائك‏.‏ فقال‏:‏ لا، ولكنّهم يضحكون من إمارتك، فإنّها أعجب من خفيّ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثلاثون بعد الثلاثمائة

وهو من شواهد س‏:‏ السريع

رحت وفي رجليك ما فيهم *** وقد بدا هنك من المئزر

على ان تسكين هن في الإضافة للضرورة، وليس بلغة‏.‏

وأورده سيبويه في باب الإشباع في الجرّ والرفع وغير الإشباع قال‏:‏ وقد يجوز أن يسكنوا الحرف المجرور والمرفوع في الشعر، شبّهوا ذلك بكسر فخذ حيث حذفوا فقالوا فخذ، وبضمّة عضدٍ حيث حذفوا فقالوا‏:‏ عضد، لأنّ الرفعة ضمة والجرة كسرة، ثم أنشد هذا البيت‏.‏

ومثله في الضرورة قول جرير‏:‏ البسيط

سيروا بني العمّ فالأهوار منزلكم *** ونهر تيرى ولا تعرفكم العرب

ومن أبيات الكتاب أيض‏:‏ السريع

فاليوم اشرب غير مستحقبٍ *** إثماً من الله ولا واغل

قال ابن جنّي في المحتسب‏:‏ وأما اعتراض أبي العباس المبرد هنا على الكتاب فإنّما هو على العرب لا على صاحب الكتاب، لأنه حكاه كما سمعه، ولا يمكن في الوزن أيضاً غيره‏.‏

وقول أبي العباس‏:‏ إنّما الرواية فاليوم فاشرب، فكأنه قال لسيبويه‏:‏ كذبت على العرب ولم تسمع ما حكيته عنهم‏.‏ وإذا بلغ الأمر هذا الحدّ من السرف، فقد سقطت كلفة القول معه وكذلك إنكاره عليه أيضاً قول الشاعر‏:‏ وقد بدا هنك من المئزر فقال‏:‏ أنما الرواية‏:‏ وقد بدا ذاك من المئزر وما أطيب العروس لولا النّفقة‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا البيت ثالث أبياتٍ للأقيشر الأسدي‏.‏

وقال صاحب الأغاني وغيره‏:‏ سكر الأقيشر يوماً فسقط، فبدت عورته وامرأته تنظر إليه، فضحكت منه وأقبلت عليه تلومه وتقول له‏:‏ أما تستحي يا شيخ من أن تبلغ بنفسك هذه الحالة‏!‏ فرفع رأسه إليها وأنشأ يقول‏:‏ السريع

تقول‏:‏ يا شيخ أما تستحي *** من شربك الخمر على المكبر

فقلت‏:‏ لو باكرت مشمولةً *** صبها كلون الفرس الأشقر

رحت وف يرجليك عقّالةٌ *** وقد بدا هنك من المئزر

انتهى‏.‏ وقال بعض من كتب على شواهد سيبويه‏:‏ مرّ سكران بسكّة بني فزارة، فجلس يريق الماء، ومرّ به نسوةٌ فقالت امرأة منهنّ‏:‏ هذا نشوان قليل الحياء، أما تستحي يا شيخ من شربك الخمر‏؟‏ فقال ذلك‏.‏

وقال ابن الشّجريّ في أماليه‏:‏ مرّ الفرزدق بامرأةٍ وهو سكران يتواقع، فسخرت منه، فقال هذه الأبيات‏.‏ انتهى، والصواب الأول‏.‏

وقوله‏:‏ أما تستحي ، هو شاهدٌ على أنّه يقال استحى أن يضرب مثلاً بياء واحدة، ورويت عن ابن كثير أيضاً، وهي لغة تميم‏.‏

قال ابن هشام في شرح بانت سعاد‏:‏ والأصل بياءين فنقلت حركة العين إلى الفاء فالتقى ساكنان‏:‏ فقيل حذفت اللام فالوزن يستفع، وقيل حذفت العين فالوزن يستفل‏.‏

وروي بدل الخمر الراح وهي بمعناها‏.‏ وقوله‏:‏ على المكبر ، بفتح الميم وكسر الموحّدة، مصدر كبر يكبر من باب علم أي‏:‏ أسنّ، والمصدر الكبر بكسر ففتح والمكبر أيضاً‏.‏

قال صحاح الصحاح‏:‏ يقال علاه المكبر بكسر الياء، والاسم الكبرة بفتح الكاف وسكون الباء أي‏:‏ السن‏.‏ وباكرت بمعنى سارعت في البكرة‏.‏ والمشمولة‏:‏ الخمر الباردة تالطعم، والأصل في المشمولة التي ضربتها ريح الشمال حتّى بردت، يقال‏:‏ غدير مشمول، ونحوه‏.‏

ويقال للخمر شمول أيضاً، لأنها تشتمل على عقل صاحبها، وقيل لأنّ لها عصفة كعصفة الريح الشمال‏.‏ والصّهبة‏:‏ الشّقرة، وسميت الخمر الصّبهاء للونها، وهي ممدودوة وقد قصرها للضرورة، وفيه ردّ على الفرّاء إذ زعم أنه لا يقصر للضرورة إلاّ ما مأخذه السماع، ولا يجوز قصر الممدود القياسي‏.‏

وقوله‏:‏ وفي رجليك ما فيهما يريد أن فيهما اضطراباً واختلافاً‏.‏ ورويّ‏:‏ وفي رجليك عقالة وهو بضمّ العين وتشديد القاف‏:‏ ظلع يأخذ في القوائم‏.‏ وبدا بمعنى ظهر‏.‏ والهن‏:‏ كناية عن كلّ ما يقبح ذكره، وأراد به هنا الفرج‏.‏ والمئزر هو الإزار، كقولهم ملحف ولحاف‏.‏ والأقشير‏:‏ مصغر أقشر، قال صاحب الصحاح‏:‏ رجل أقشر بيّن القشر بالتحريك، أي‏:‏ شديد الحمرة‏.‏

قال صاحب الأغاني‏:‏ الأقشير لقبٌ به، لأنه كان أحمر الوجه أقشر‏.‏ واسمه المغيرة بن عبد الله بن معرض بن عمرو بن أسد بن خزيمة ويكنى أبا معرض بضم الميم وكسر الراء الخفيفة‏.‏

وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ اسمه المغيرة بن الأسود بن وهب، أحد بني أسد بن خزيمة‏.‏

قال صاحب الأغاني‏:‏ وعمّر الأقيشر عمراً طويلاً‏.‏ ولد في الجاهليّة، وكان كوفيّاً خليعاً، ماجنا، فاسقاً، فاجراً مدمن الخمر، قبيح المنظر‏.‏ وهجاه رجلٌ من بني تميم فقال‏:‏ البسيط

يا أيّها المبتغي حشّاً لحاجته *** وجه الأقيشر حشّ غير ممنوع

والحشّ، بضم الحاء المهملة وتشديد الشين المعجمة‏:‏ بيت الخلاء ‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ وكان يغضب إذا قيل له أقيشر، فمرّ يوماً بقوم بني عبس فقال رجل منهم‏:‏ يا أقيشر‏!‏ فسكت ساعة ثم قال‏:‏ الوافر

أتدعوني الأقيشر‏!‏ ذاك اسمي *** وأدعوك ابن مطفئة السراج

تنادي خدنها بالليل سرّ *** وربّ الناس يعلم ما تناجي

فسمّي الرّجل ابن مطفئة السرّاج، وولده ينسبون إلى ذلك إلى اليوم‏.‏

قال صاحب الأغاني‏:‏ وله حكاياتٌ في شرب الخمر والافتراء على الخمّارين، ولم يسلم من هجوه أحد‏.‏

وقد أطنب صاحب الأغاني في قبائحه‏:‏ منها أنه كان له ابن عمّ موسر فكان يسأله فيعطيه، حتّى كثر ذلك عليه فمنعه فقال‏:‏ إلى كم أعطيك وأنت تنفقه في شرب الخمر‏!‏ لا والله لا أعطيك شيئاً فتركه حتّى اجتمع قومه في ناديهم - وهو فيهم - ثم جاء فوقف عليهم ثم شكاه إليهم وذمّه، فوثب إليه ابن عمّه فلطمه، فأنشأ يقول‏:‏ الطويل

سريعٌ إلى ابن العمّ يلطم وجهه *** وليس إلى داعي النّدى بسريع

حريصٌ على الدّنيا مضيعٌ لدينه *** وليس لما في بيته بمضيع

والبيت الأول أورده صاحب تلخيص المفتاح، شاهداً لردّ العجز على الصدر‏.‏

ومنها أنّه كان عنّيناً لا يأتي النساء، وكان يصف ضدّ ذلك من نفسه، فجلس إليه يوماً رجلٌ من قيس فأنشده الأقيشر‏:‏ الكامل

ولقد أروح بمشرفٍ ذي ميعةٍ *** عسر المكرّة ماؤه يتفصّد

مرحٍ يطير من المرح لعابه *** ويكاد جلد إهابه يتقدّد

ثم قال للرجل‏:‏ أتعرف الشعر‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ما وصفت‏؟‏ قال‏:‏ فرساً‏.‏ قال‏:‏ أفكنت لو رأيته ركبته‏؟‏ قال‏:‏ إي والله - وأمال عطفه - فكشف الأقيشر عن أيره وقال‏:‏ هذا وصفت فقم واركبه‏.‏ فوثب الرجل عن مجلسه وهو يقول‏:‏ قبحك الله من جليس‏!‏ وذكره ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة ، وأورد له هذين البيتين‏.‏

ومنها‏:‏ أنّ عمّه الأقيشر قالت له يوماً‏:‏ اتق الله وقم فصلّ‏!‏ فقال‏:‏ لا أصلّي‏!‏ فأكثرت عليه فقال‏:‏ قد أبرمتني، فاختاري خصلةً من خصلتين‏.‏ إما أن أصليّ ولا أتطهّر، وأتطّهر ولا أصلّي‏!‏ قالت‏:‏ قبحك الله، فإن لم يكن غير هذا فصلّ بلا وضوء‏.‏ فصلى بلا وضوء‏.‏

ومنها أنه أتى إلى قيس بن محمد بن الأشعث - وكان ضريراً وناسكاً - فسأله فأعطاه ثلثمائة درهم، فقال‏:‏ لا أريدها جملة، ولكن مر القمرهان أن يعطيني في كلّ يومٍ ثلاثة دراهم حتّى تنفذ‏.‏ فأمر بذلكن فكان يأخذها، فجعل درهماً لطعامه، ودرهماً لشرابه، ودرهما لدابّة تحمله إلى بيوت الخمّارين؛ فلما نفدت الدّراهم، أتاه الثانية فسأله فأعطاه كالأولى، وعمل بها مثل ذلك‏.‏

ثم أتاه الثالثة فأعطاه وفعل مثل ذلك‏.‏ وأتاه الرابعة فسأله فقال قيس‏:‏ لا أبا لك‏!‏ كأنّك قد جعلته خراجاً علينا‏.‏

فانصرف وهو يقول‏:‏ الطويل

ألم تر قيس الأكمة ابن محمدٍ *** يقول ولا تلقاه للخير يفعل

رأيتك أعمى العين والقلب ممسك *** وما خير أعمى العين والقلب يبخل

فلو صمّ تمّت لعنة الله كلّه *** عليه وما فيه من الشّرّ أفضل

فقال قيس، لو نجا من الأقيشر لنجوت منه‏!‏ ومنها‏:‏ أنّه تزوج بابنة عم له، يقال لها الرّباب، علىأربعة آلاف درهم، فأتى قومه وسألهم فلم يعطوه شيئاً، فأتى ابن رأس البغل - وهو دهقان الصّين، وكان مجوسيّاً - فسأله فأعطاه الصداق كاملاً، فقال‏:‏ المتقارب

كفاني المجوسيّ مهر الرّباب *** فدىً للمجوسيّ خالي وعم

شهدت عليك بطيب الأروم *** فإنّك بحرٌ جوادٌ خضم د

وإنّك سيد أهل الجحيم *** إذا ما تردّيت فيمن ظلم

تجاور هامان في قعره *** وفرعون والمكتني بالحكم

فقال المجوسيّ‏:‏ ويحك‏.‏ سألت قومك فلم يعطوك شيئاً وجئتني فأعطيك فجزيتني هذا القول‏!‏ فقال‏:‏ أوما ترضى أن جعلتك مع الملوك وفوق أبي جهل‏!‏ ومن شعره‏:‏ السريع

يا أيها السائل عمّا مضى *** من علم هذا الزّمن الذّاهب

إن كنت تبغي العلم وأهله *** وشاهداً يخبر عن غائب

فاعتبر الأرض بأسمائه *** واعتبر الصّاحب بالصّاحب

ومن قصيدة له‏:‏ البسيط

لا تشربن أبداً راحاً مشارقةً *** إلاّ مع الغرّ أبناء البطاريق

أفنى تلادي وما جمّعت من نشبٍ *** قرع القواقيز أفواه الأباريق

وهذا البيت من أبيات مغني اللبيب في الباب الخامس‏.‏

ومن هذه القصيدة‏:‏

عليك كلّ فتىً سمحٍ خلائقه *** محض العروق كريم غير ممذوق

ولا تصاحب لئيماً فيه مقرفةٌ *** ولا تزورنّ أصحاب الدّوانيق

وكان اللأقيشر مولعاً بهجاء عبد الله بن إسحاق، ومدح أخيه زكريّا، فقال عبد الله لغلمانه‏:‏ ألا تريجونا منه‏؟‏ فانطلقوا فجمعوا بعراً وقصباً بظهر الكوفة، وجعلوه في حقرة، وأقبل الأقيشر وهو سكران من الحيرة، على بغل رجلٍ مكار، فأنزله عن البغل وعاد، فأخذوا الأقيشر فشدّوه ثم وضعوه فيتلك الحفرة، وألهبوا النّار في القصب والبعر، وجعلت الريح تلفح وجهه وجسمه بتلك النار، فأصبح ميّتاً ولم يدر من قتله‏.‏ وكان ذلك في حدود الثمانين من الهجرة‏.‏

تتمة ذكر الىمدي في المؤتلف والمختلف من اسمه الأقيشر، ومنه اسمه الأقيسر من الشعراء‏.‏

فالأقيشر هو المغيرة بن عبد الله الأسديّ الشاعر المشهور، وصاحب الشراب‏.‏

والأقيسر هو صاحب لواء بني أسد، حاهليّ‏.‏ قال ابن حبيب‏:‏ اسمه عامر بن طريف بن مالك بن نصر، وأنهى نسبه إلى دودان ابم اسد بنم خزيمة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد

الحادي والثلاثون بعد الثلاثمائة

الرجز

حتى إذا ما خرجت من فمّه

على أنّ تشديد الميم مع ضمّ الفاء وفتحها ضرورة وليس بلغة ابن جنّي أقول‏:‏ قاله ابن جنّي في سرّ الصناعة، في حرف الميم وهذه عبارته‏:‏ اعلم أنّ الميم حرف مجهور، يكون أصلاً، وبدلاً، وزائداً‏.‏

فالأصل نحو مرس وسمر ورسم‏.‏

وأما البدل فقد أبدلت من الواو، والنون، والباء، واللام‏.‏ أما إبدالها من الواو فقولهم فم وأصله فوه بوزن سوط، فحذفت الهاء تخفيفاً، فلما بقي على حرفين ثانيهما حرف لين، كرهوا حذفه للتنوين فيجحفوا به، فأبدلوا من الواو ميماً للقرب، لأنّهما شفهيّان، وفي الميم هواءفي الفم يضارع امتداد الواو‏.‏

ويدلّ أنّ فم مفتوح الفاء وجودك إياها مفتوحةً في هذا اللفظ، وهو مشهور‏.‏ وأمّا ما حكى فيها أبو زيد وغيره، من كسر الفاء وضمّها، فضربٌ من التغيير لحق الكلمة لإعلالها بحذف لامها وإبدال عينها‏.‏

وأمّا قول الآخر‏:‏ الرجز

يا ليتها قد خرجت من فمّه *** حتّى يعود الملك في أسطمّه

يروى بضمّ الفاء وفتحها، فالقول في تشديد الميم عندي أنه ليس ذاك بلغة‏.‏ ألا ترى أنّك لا تجد لهذه المشدّدة الميم تصرّفاً‏.‏ إنما التصرّف كلّه على‏:‏ ف وه، من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون بأفواههم‏}‏‏.‏

وقال الآخر‏:‏ الوافر

فلا لغوٌ ولا تأثيم فيه *** وما فاهوا بد أبداً مقيم

وقالوا‏:‏ رجل مفوّه‏:‏ إذ أجاد القول، لأنه يخرج من فيه‏.‏ وقالوا‏:‏ ما تفوّهت به، وهو تفعّلت‏.‏ وقالوا في جمع أفوه، وهو الكبير الفم‏:‏ فوهٌ‏.‏ ولم نسمعهم قالوا‏:‏ أفمام، ولا رجل أفمّ كما قالوا أصم‏.‏ فدلّ اجتماعهم على تصريف الكلمة بالفاء والواو والهاء على أنّ التشيديد لا أصل له، وإنما هوعارضٌ لحق الكلمة‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإذ ثبت بما ذكرته أن التشديد ليس من أصل الكلمة، فمن أين أتاها‏؟‏ وما وجه دخوله إياها‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن أصل ذلك أنهم ثقّلوا الميم في الوقف فقالوا‏:‏ هذا فم كما يقولون هذا خالد، وهو يجعل، ثم إنّهم أجروا الوصل مجرى الوقف فيما حكاه سيبويه عنهم من قولهم ثلاثهر بعة، وكقوله‏:‏ الرجز ببازلٍ وجناء وعيهلّ فهذا وجه تشديد الميم عندي فإن قلت‏:‏ إذا كان أصل فم عندك فوه، فما تقول في قول الفرزدق‏:‏ هما نفثا في فيّ من فمويهما وإذا كانت الميم بدلاً من الواو فكيف جاز له الجمع بينهما‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن أيا عليّ حكى لنا عن أبي بكر وأبي إسحاق، أنهما ذهبا إلى أنّ الشاعر جمع بين العوض والمعوّ منه؛ لأن ّالكلمة مجهورة منقوصة‏.‏

وأجاز أبو عليّ أيضاً فيه وجهاً آخر، وهو أن تكون الواو في فمويهما لا ما في موضع الهاء من الإفواه، وتكون الكلمة يعتقب عليها لامان‏:‏ هاء مرة، وواو أخرى، فيجرى هذا مجرى سنة وعضة‏.‏

ألا نراهما في قول من قال سنوات، وأسنتوا، ومساناة، وعضوات، واويّين، وتجدهما في قول من قال سنة سنهاء وبعير عاضه، عائيّين‏.‏ وإذا ثبت بما قدّمناه أن عين فم في الأصل واو، فينبغي أن يقضى بسكونها، لأنّ السكون هو الأصل‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهلاّ قضيت بحركة العين بجمعك إيّاه على أفواه، نحو بطل وابطال، وقدم وأقدام، ورسن وأرسان‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن فعلاً مما عينه واوٌ بابه أيضاً أفعال، كسوط، وحوض وأحواض، ففوهٌ لأنّ عينه واوٌ بسوط أشبه منه بقدم ورسن‏.‏ فاعرف ذلك‏.‏ انتهى كلام ابن جنّي باختصار قدر النصف‏.‏

وقول الشارح‏:‏ والجمع أفمام ‏.‏ يوهم أنه مسموع، وقد نصّ ابن جنّي وصاحب الصحاح على أنه لا يقال ذلك‏.‏

والبيت من أجوزة للعجّاج، وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب‏.‏

ورواية الشارح للبيت غير جيدة، والصواب‏:‏ يا ليتها قد خرجت من فمّه كما هو في ديوانه‏.‏ وكذا رواه ابن السكيت في إصلاح المنطق ز يقول‏:‏ يا ليتها قد خرجت من فمّه حتّى يعود الملك إلى أهله‏.‏ ويجوز أن يكون أراد كلمة يتكلّم بها‏.‏ وأسطمّ الشيء‏:‏ وسطه ومعظمه‏.‏ انتهى‏.‏

وقال صاحب الصحاح‏:‏ يقال فلانٌ في أسطمّة قومه، أي‏:‏ في وسطهم وأشرافهم‏.‏ وأسطمّه الحسب‏:‏ وسطه ومجتمعه، والأطسمّة مثله على القلب‏.‏ وأنشد بيت العجّاج وقال‏:‏ أي في أهله وحقّه، والجمع الأساطم‏.‏ وتميم تقول‏:‏ اساتم، تعاقب بين الطاء والتاء فيه، وأورد البيت في مادة الفاء والميم أيضاً وأنشد بعده‏:‏

فلا أعني بذلك أسفليكم *** ولكنّي أريد به الذّوينا

على أنّ قوله الذّوين‏:‏ فيه شذوذان‏:‏ أحدهما قطعه عن الإضافة، وثانيهما إدخال اللام عليه‏.‏

وهذا البيت للكميت بن زيد، من قصيدةٍ هجا بها أهل اليمن تعصّباً لمضر‏.‏ يقول‏:‏ لا أعني بهجوي إيّاكم اراذلكم، وإنّما أعني ملوككم، كذي يزن، ذي جدن، وذي نواس، وهم التبابعة‏.‏ والأسفلون‏:‏ جمع أسفل، خلاف الأعلى‏.‏ واراد بالذّوين‏:‏ الأذواء‏.‏

وقد تقدم شرح هذا البيت في الشاهد السادس عشر من أوائل الكتاب‏.‏

//التوابع